2024/05/12 | 0 | 850
مع الشيخ عبد الجليل البن سعد في عقلية فقيه
سماحة الشيخ (عبد الجليل البن سعد) ليس فقط من الشخصيات العلمية الدينية البارزة، والمحاضرين الإسلاميين المميزين، والخطباء الحسينيين المفوهين، بل هو أيضا باحث جاد، وكاتب متمكن، ومؤلف قدير، أنتج فكره النير، وقلمه السيال الكثير من المقالات والبحوث والكتب والمؤلفات في المجالات الدينية والفكرية والاجتماعية وغيرها، منها -على سبيل المثال- (مدارات حسينية، قوى الخير وقوى الشر في القرآن الكريم، معالم ليلة القدر، رسائل نحوية، شرح دعاء الافتتاح، جواهر الكلم، الشيخ بهجت كما حضرته-رؤى ورواية، الابتعاث إلى الخارج هموم وقضايا....) وغيرها من الكتب والمؤلفات، إضافة إلى محاولته مؤخرا اقتحام عالم الأدب والرواية من خلال روايته (صانع العبقرية)
وكان آخر إصداراته هو كتابه الذي تكرّم وتفضّل بإهدائي نسخة منه مشكورا[1]: (عقلية فقيه-مع الشيخ حبيب بن قرين الأحسائي) في طبعته الأولى هذا العام 1445هـ 2024م، ويقع في (174) صفحة من الحجم المتوسط، ويتكوّن إضافة إلى المقدمة من (منطق الأوصاف والشمائل، فطنة العالم الفقيه، موضوع الصلاة في الفكر الفقهي، نعم الزاد ليوم المعاد وذكاء الخطاب، آخر حبّات المسك، ثم المصادر فالمحتويات)
والكتاب مهم في موضوعه، قيّم في مادته، جميل في تبويبه وترتيبه، رائع في نظمه وسبكه، ثري وغني في معلوماته، لا يمكن لمن يصاحبه ويسامره أن يفارقه إلا وهو مثقل بزاد علمي ثقيل، ومكتشف لقامة علمية أحسائية كبيرة، ذات عقلية فكرية وعلمية عملاقة، اسمها الشيخ (حبيب بن قرين الأحسائي)
فهو -على صغر حجمه- يستحق وبكل جدارة أن نطلق عليه اسم (كتاب) في زمن عزّ فيه إطلاق هذا الاسم على الكثير مما تنتجه وتصدره (المطابع) متى أردنا بهذا الاطلاق أن يطابق الاسم المسمى، مع ملاحظة إنني أقول هذا الكلام وما سيتلوه من كلام بغض النظر عن مدى موافقتي من مخالفتي للمؤلف العزيز الكريم، كون الإشادة لا يلزم منها الموافقة المطلقة، ولا تعني بالضرورة عدم وجود الملحوظات.
v هويّة الكتاب:
الكتاب وإن كان لا يخلو من عرض مختصر جدا لشيء من سيرة الشيخ ابن قرين، وتسليط الضوء على بعض الجوانب المشرقة من حياته المضيئة، إلا أنه لا يمكننا أن نصنّفه من كتب (الأعلام) ولا أن نعدّه من كتب (السير والتراجم) وإنما هو دراسة علمية تأملية عميقة وواعية ومستوعبة لتراثه الفقهي، ولأهم سماته وصفاته العقلية السامية العالية التي اتكأ عليها وانطلق منها في مختلف شؤون حياته على مستوى النظرية والتطبيق.
ولأنها دراسة محصورة في السمات العقلية للشيخ ابن قرين، فمن الطبيعي جدا ألا يكون هناك توسع في تناول حياته وعرض سيرته، وإنما يُكتفى من ذلك بإلماعات براقة، وإضاءات خاطفة في حدود ما تقتضيه هذه الدراسة.
v عنوان الكتاب:
عنوان هذا الكتاب هو (عقلية فقيه)، وهو عنوان جميل، تمّ اختياره بذكاء كبير، ودقة عالية، وعناية فائقة، كونه تقريبا يحوي كل المواصفات التي يجب توافرها في العناوين، من القصر، والجمال، والجاذبية، والمرونة، ووضوح المعنى، وصدق الدلالة، والانطباق على المعنون[2].
ولو أن المؤلف الكريم اختار عنوانا آخر (كعلم فقيه) مثلا، لكان ذلك أجنبيا عن الموضوع، ولما انطبق على المعنون، ولاختلف المعنى باختلاف العقل عن العلم.
ومع أن المؤلف لم يفصح عن مراده من (العقلية) إفصاحا جليّا، إلا إننا نستطيع أن نؤكد على أنه لم يرد من ذلك (العقل مطلقا) لا بمعانيه اللغوية ولا الاصطلاحية، وإنما أراد (عقل الشيخ ابن قرين النظري) بما امتاز به من السمات العظيمة والصفات الجليلة، التي تجلّت في أبعاد شخصيته الدينية والعلمية والفقهية والاجتماعية والأخلاقية...باعتبار أنه كان يتحرك في كل تلك الحقول والميادين انطلاقا من تلك السمات والصفات التي صنعت منه شخصية ملائكية متفردة بصفات الكمال وسمات الجلال.
ويؤكد لنا أن مراد المؤلف من العقلية هو ما ذكرناه، أمران:
الأول: تأكيد المؤلف على: (إن هذه الدراسة البسيطة ابتدأت للدخول من باب واسع، فأخذت بأطراف شخصية شيخ الفضيلة والعلم: ابن قرين "عطر الله رمسه" وحدّدت السمات العريضة لعقليته الفقهية التي يدير بها مواقف الروح والنفس في المواجهة مع التيارات أو الحالات الفردية من حوله.
وعقليته التي ينطلق منها في تقديراته لما يجب عليه وما لا يجب.
وعقليته التي تفرز مزاجه وذوقه العلمي الذي يتحكّم فيما يكتبه وينسجه من متون عقدية وفقهية)[3].
الثاني: تكفّل مادة الكتاب بعرض تلك السمات التي أشار إليها المؤلف في المقدمة إجمالا عرضا تفصيليا، ومحاولة إثبات كل سمة منها والاستدلال عليها بما يناسبها من حياة الشيخ ابن قرين وسيرته ومواقفه وتراثه العلمي الديني على مستوى العقيدة والتشريع.
أما اختيار المؤلف لمفردة (الفقيه) دون (العالم) أو غيرها من المفردات، فهو أيضا من دلائل وعي المؤلف وذكائه في اختياره عنوان كتابه، وذلك لاختلاف العلم عن الفقه، والعالم عن الفقيه، وإن كان العلم من مقدمات الوصول إلى الفقاهة، وكل فقيه هو عالم، ولا عكس.
ومع أن الفقه في الاصطلاح يعني فيما يعني: (العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية) والفقيه هو (العالم بالأحكام الشرعية القادر على استنباطها من مداركها) ومع ما تمّ الاصطلاح عليه من إطلاق لقب (فقيه) على المراجع والمجتهدين من علماء الدين، إلا أن الواضح من الكتاب ومادته أن المؤلف لم يحصر مراده من لقب (الفقيه) في هذه المعاني الاصطلاحية فحسب، ليثبت لنا -مثلا- أن الشيخ ابن قرين من الفقهاء المجتهدين، بل مراده أوسع من ذلك وأشمل بكثير، ومما يدخل في ذلك المعنى المراد المعاني اللغوية للفقه والفقيه، إذ أن الفقه في اللغة هو (العلم بالشيء، والفهم له، والفطنة فيه) والفقيه هو (العالم الفاهم الفطن) نقول: (فَقَه المسألة، أي علمها ووعاها وفهمها) وقطعا ليس كل من اكتسب علما، أصبح فاهما له فقيها فيه.
وبهذا نعلم أن الفقه يختلف عن العلم، وإن كان العلم مقدمة من مقدمات الفقاهة كما أشرنا، ولذلك حتى الذين فسّروا الفقه بالعلم، بيّنوا أن المراد بالعلم -هنا- هو (الإدراك) بمعنى وعي المسألة وفهمها وليس فقط الحصول عليها.
وعن أبي عبد الله عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس في مسجد الخيف، فقال: (نضّر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، وحفظها، وبلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)[4].
وهنا يجب أن نلاحظ أن تحصيل العلوم وفهمهما ووعيها على المستوى النظري، لا يكفي في تحقق الفقاهة على معناها الصحيح الكامل، بل لابد من انعكاس أثر ذلك العلم والفقه على شخصية صاحبهما، ليجسدهما في سيرته وسلوكه، ويستفيد منهما عمليا في كل شؤون حياته، وإلا لأصبح أحمقا سفيها رغم ما يحمله من علم وفقه، بل ولأخرجه علمه وفقاهته من الإنسانية إلى البهيمية، تماما كاليهود الذين لم يعملوا بما علّمهم الله من علوم التوراة ومعارفها، فشبّههم الله بالحمير الذين يحملون أسفارا من العلم والمعرفة، لكنهم لم يجنوا أية فائدة مما حملوه، وليس لهم منه من نصيب إلا الجهد والتعب.
وعلى ضوء هذه القراءة لعنوان الكتاب استنادا إلى مادته، يمكننا القول بصحة استنتاجنا المشار إليه من أن مراد المؤلف من هذا العنوان هو (العقل النظري) للشيخ ابن قرين، بما اتسم به من سمات سامية انعكست على كل أبعاد شخصيته، فصنعت منه قامة علمية فقهية كبيرة، وفق التقسيمات التي أشار إليها المؤلف في المقدمة إجمالا في كلامه آنف الذكر، ثم عرضها تفصيلا في الكتاب.
vدوافع تأليف الكتاب:
بالقراءة العامة والعابرة للكتاب قد نتصور عدم وجود أية غاية للمؤلف من وراء تأليف هذا الكتاب إلا الاضطلاع بمهمة عرض تلك السمات والصفات العقلية التي رآها متجسدة في شخصية الشيخ ابن قرين فلفتت انتباهه وأثارت إعجابه، وليس أكثر من ذلك، ولكن سرعان ما يزول عنّا هذا الوهم أو التصور الخاطئ متى وقفنا على مادة الكتاب ورأينا ما تحويه من معلومات وأحداث وتحليلات واستنتاجات مؤيّدة بالشواهد والأدلة.
فقطعا لم يقم المؤلف بتأليف كتابه هذا فقط بقصد عرض تلك الصفات والسمات والتعريف بها، ولا المنطلق فيه هو العاطفة باعتبار أن المؤلف والمؤلف عنه كلاهما من منطقة واحدة هي الأحساء، أو لأنهما ينتميان إلى منظومة واحدة هي منظومة العلوم الدينية، ولا المنشأ لتأليفه الإعجاب فقط بتلك السمات، بل هناك دوافع لتأليف هذا الكتاب أكبر من هذه الأمور بكثير، يمكننا إجمالها في دافعين كبيرين:
الدافع الأول:
بعد جولتي في ربوع هذا الكتاب تولّدت لديّ قناعة أو ما يكاد يصل إليها بأن من أهم وأكبر دوافع المؤلف لاختيار هذا الموضوع (عقلية فقيه) واختياره الشيخ (ابن قرين) ليكون مثالا لتلك العقلية، هو أن يعبّر المؤلف عن رؤيته ووجهة نظره عمّا يجب أن يتصف به الفقهاء بصورة عامة ومن سيتصدون للمرجعية بصورة خاصة من سمات وصفات تتجاوز مرحلة الاجتهاد والتأهل للإفتاء، وما اختياره للشيخ ابن قرين إلا لأنه رآه أنموذجا صالحا للتعبير عن تلك الرؤية التي يراها، وذلك لقناعته بأنه (من الشخصيات العلمية التي نرى في مربع حياتها صندوقا يحوي على كنز لا يفنى بيسر وسهولة)[5]، وذلك بعد أن تأمّل في مؤلفاته وأخباره، وتتبع سيرته وحياته، فرآه (عالما ربانيا ملهَما وملهِما، حرا طليقا من قيود الزمن، لم يرتهن بعصره، بل هو حاضر مؤثر فينا بفكره، فحياته وآثاره ليست مجرّد خطوط سار هو عليها فتدلنا من أين بدأ وإلى أين انتهى به المسير، هذا فحسب، ولكنها تحتوي على خطط لمن أراد أن يبني ذاته، ويصقل شخصيته، وعلى تخطيطات دقيقة لبعض أبنية الثقافة الدينية)[6].
وشخصية علمية يرى فيها الشيخ البن سعد هذا كله، وغيره الكثير مما هو على شاكلته مما يمكنك أن تراه متناثرا في مواضع عدة من كتابه هذا، لا شك أن ذلك يغريه كثيرا، ويدفعه بكل قوة للكتابة عنها، ليس فقط بقصد الإشادة بها، والثناء عليها، والتعريف بما تتصف به من عظيم السجايا والمثل، بل وأيضا ليقدمها كنموذج للقيادة الدينية التي تمثل رؤيته وتعبر عن وجهة نظرة.
وما أريد قوله اختصارا: إن لدى المؤلف رؤية أو تصورا واضحا (للعقلية الفقهية) يعتقد باحتياج الفقهاء إليها في مرحلة ما بعد الاجتهاد، وأراد -فيما أراد- من تأليف هذا الكتاب أن يضمّن تلك الرؤية ويوجهها إلى المعنين بقصد دراستها والنظر فيها.
ومما يعزّز لدينا هذه القناعة كلام المؤلف المقتضب عن (علم الاستعداد) الذي هو من العلوم المستقلة رغم تصنيفه من علم الأصول، والذي جاء بعد تطوّر موضوع الاجتهاد وازدياد متطلباته واشتراطاته، وهو (علم الاستعداد) يتحدث عن الاجتهاد وفنونه وأدواته.
إذ بعد كلام المؤلف عن هذا العلم، وإشارته إلى أن من أقدم المؤلفات فيه هو كتاب (كاشفة الحال) لابن أبي جمهور الأحسائي، ومن ثم (رسالة المحقق الكركي) التي هي في غاية الاختصار، وما جاء بعد هذين المؤلفين من مؤلفات أشملها وأفضلها كتاب (الاستعداد) للقزويني، الذي طوّر هذا العلم وأضفى عليه الصفة العلمية، فجعل له تعريفا وموضوعا وغاية...علّق المؤلف على ذلك كله بقوله[7]: (إلا أن هذه الأنفاس المباركة واللفتة الرائدة، لم تتسع لتناول الاستعداد من غير جهته العلمية، من حيث أرادوا لها أن تبقى متناسبة مع علم الأصول الذي أضافوها إليه.
ولكن -ومن وجهةٍ تقديرية شخصية- أرى أهمية عظيمة لجهات الاستعداد الأخرى، لاسيما تلك التي يحتاجها الفقيه في مرحلة ما بعد تحصيل الاجتهاد والأهلية العلمية للفتوى.
أعني ما لا غنى له عنه لإعداد خطابه الفقهي، والأخذ بأفضل أساليب التواصل والتأثير، فجاءت هذه المحاولة -يعني محاولة تأليف كتابه- كإضافة بسيطة، أشبه ما تبدو كورقة بين أغصان كثيفة بنتاج العلماء ذوي السبق أظلهم الله برحمته، وبوأهم الغرف من جنته)
وليس هذا فحسب، بل حتى عملية التجديد في المناهج الدراسية الحوزوية (بحسب رؤية المؤلف) يجب أن تتم على أيدي أصحاب هذه العقول المتسمة بهذه السمات، كما يجب دراستها دراسة علمية موضوعية واعية، وغير غافلة عن طبيعية العقلية المنهجية لها ولما سبقها من المناهج.
وما ذاك إلا لما لاحظه المؤلف من أن الحراك المتنامي والمتسارع الذي تعيشه الحوزات المطورة في تطوير المناهج الدراسية والأخلاقية لم يعط اهتماما لهذه الجنبة المهمة في عملية التجديد والتطوير، إذ أن الكثيرين ممن مارسوا عملية التطوير والتجديد في الكلام والأصول والفقه والتفسير...لم يقوموا بدراسة العقول والأذهان التي نسجت خيوط تلك الأطروحات عصرا بعصر.
ودليل المؤلف في ذلك أنه بعد متابعته للمعاهد العلمية الحوزوية المطورة لم يجد لا شرحا ولا تقارير تتحدث عن اجتماعات عمل تكشف له عن اهتمام المعنيين بتجديد المناهج وتطويرها إلى طبيعة العقلية المنهجية لما سبقها، باستثناء عمل الشهيد الصدر في الحلقات، وهو أيضا ليس بأعزّ من أن يعاد النظر فيه[8]، ليؤكد بعد ذلك على أن هذا من أهم الأسباب التي حرضته على أن يتحدث عن عقلية الفقيه في الدورين (العلمي والعملي) لأنه يراها مفقودة في حياة طالب العلم من هذا العصر[9].
وكذلك الحال فيما لاحظه المؤلف بشأن (الرسائل العملية) وعدم الاعتناء بها، رغم ما لها من قيمة وأهمية كونها تمثل آرائه الفقهية، وهي حلقة الوصل بين الفقيه ومقلديه.
فمن جهة نجد بعض مراجع التقليد حتى لم يكلّفوا أنفسهم بإعداد رسائل عملية خاصة بهم، تلبّي حاجة مقلديهم، وتوافق التطور الذي تعيشه الحضارة العلمية والفكرية في عصرنا الحاضر، وإنما اكتفوا بالتعليق على رسائل من سبقهم من المراجع، بل وفيهم من عزف حتى عن التعليق على تلك الرسائل، واكتفى بالإجابة على أسئلة مقلديه الذين أصبح التواصل معهم ميسورا في ظل التقنيات الحديثة.
ومن جهة ثانية لم تحظ هذه الرسائل بالقراءات التحليلية والدراسات النقدية التي من شأنها أن تكشف عمّا فيها من خلل أو قصور، وتساهم في العمل على تطويرها بما يتناسب مع قيمتها وأهميتها[10].
نعم، يستثني من ذلك السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي (هندس أبواب الرسالة هندسة فنية، كما أن مسائله التي يفتتح بها أبواب الرسالة هي أيضا لها دلالتها، وكان ملتفتا إلى أن خلف بعض الأبواب قواعد ذات حضور وتأثير فلم يهمل التفريع عليها.
ومجهوده الطيب والجديد هذا، يستدعي متابعة تعريفية به ليس شهادة بنحو ما هو إثارة)[11].
وهذا هو الدافع الأساس لقيام المؤلف بدراسة (رسالة نعم الزاد) دراسة تحليلية مفصلة وموسعة في كتابه هذا، (إذ إن ما جاء من تحليل وتفصيل حول رسالة "نعم الزاد ليوم المعاد" التي هي نموذج من خير نماذج رسائل الدساتير العبادية في وقتها، سوف يجيبك عن كثير من الأسئلة حول محاولات التطوير لكتب المسائل الشرعية في العقود المتأخرة، وهل أنها حققت تطويرا عمليا أم أن تلك الرسائل الحديثة لم تقدم سوى الإغفال والتنازل عن الدقة العلمية والفنية، لصالح الحاجة العملية للمؤمنين...)[12].
وما اكتفى المؤلف بهذه الدراسة الضافية لتلك الرسالة، بل شفع دراسته بدعوة أساتذة البحث الخارج في الحوزات المحلية على أقل تقدير، إلى الاهتمام بالرسائل العملية التي خلّفها أعلامنا الأعلام، والقيام بدراستها، وكذا جعلها مصدرا ومرجعا لهم في دروسهم وبحوثهم[13]، تخليدا لتلك الرسائل، وتنويها بأولئك الأعلام ومكانتهم العلمية العالية، خصوصا وأنهم أو الكثيرين منهم أهمل التاريخ ذكرهم، وتغافلت كتب الأعلام والسير والتراجم عن ترجمتهم[14].
وهذا ما يجعلنا نعتقد أن توجّه المؤلف لعرض ودراسة رسالة (نعم الزاد) ليس فقط بقصد بيان ما تتسم به من مزايا علمية وفنية، بل هو أيضا رسالة عملية من المؤلف تتضمن التأكيد على وجوب الاهتمام بالرسائل العملية في موادها العلمية وهندستها الفنية، وإعادة هيكليتها وبنائها وفق هذه العقليات العلمية الفقهية المتصفة بهذه الصفات المشتملة عليها هذه الدراسة.
والخلاصة: إن لدى المؤلف رؤية عن (العقلية الفقهية) تتعلق بالفقهاء والمناهج الدراسية الحوزوية والرسائل العملية، ويعتقد أن الشيخ ابن قرين يمتلك تلك العقلية، أو -وعلى أقل التقديرات- له حظ عظيم منها، فكان هذا من أهم وأكبر دوافع اختياره لهذا الموضوع، ليقدم من خلاله تلك الرؤية التي يراها، متخذا من الشيخ ابن قرين مثالا لها، ومعينا له على تقديمها.
وقطعا لم يحرص المؤلف على تقديم رؤيته عن (العقيلة الفقهية) ويؤكد على وجوب الاهتمام بها بكل أبعادها وفي مختلف مجالاتها- إلا انطلاقا من إيمانه بأن ذلك من أفضل السبل الناجحة في عملية التصحيح والتطوير في المنظومة الدينية وأعلامها، وهو الذي يمكننا من تقديم صورة مشرقة ناصعة عن الدين في تراثه العلمي، وفتاواه الفقهية، وقادته الممثلين للنيابة العامة عن المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الدافع الثاني:
محاولة المؤلف تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة والمغلوطة لدى البعض في نظرتهم الدونية إلى العلوم الدينية وعلماء الدين على السواء، فتراهم يحكمون على الفكر الديني بالضعف والهزالة حتى دون أن يقرأوا كتابا واحدا في الفكر الديني، كما يحكمون على علمائه بالبساطة والتخلف والرجعية حتى دون أن يطلعوا على سيرهم، أو يعلموا شيئا عن حياتهم ومواقفهم، أو يقرأوا شيئا مما أنتجه فكرهم وسطره يراعهم، وربما كان مصدر البعض في هذه النظرة وذلك الحكم فتوى شاذة هنا أو هناك، أو خطاب منبري هزيل من هذا المنبر أو ذاك، لا الخطاب فيه يمثل الفكر الديني، ولا الخطيب يمثل العلماء والفقهاء والمفكرين والمحققين.
ولا شك أن هذه النظرة وتلك الأحكام المستندة على مثل هذه الأمور، والمعتمدة لهذه الموازين وما شابهها، تحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، كونها مبنية أساسا على أسس غير سليمة، فمن يريد الحكم على فكر معيّن، عليه -أولا- الوقوف على ذلك الفكر والاطلاع عليه في مصادره الأصيلة، ثم يحكم عليه بما أوصله إليه بحثه وتنقيبه، كما أن الحكم على الشخصيات إنما يكون بعد الاطلاع على سيرها، والقيام بدراستها، ولو في حدود الجزئية التي نريد الحكم فيها، وهذا ما يجب أن يكون مع الفكر الديني كما مع غيره، وما يجب أن يكون مع علماء الدين كما مع غيرهم.
والمؤلف الكريم وإن صرّح في كتابه هذا بأنه من دعاة التجديد المؤيدين له، بل -وكما أشرنا- ربما له رؤية تطويرية للمنظومة الدينية ورجالها، إلا أنه في الوقت ذاته يؤمن بأنه: (ليس تاريخ الحضارات هو وحده الذي تندهش عند قراءته بمطالعتك لأنظمة وسياسات وإجراءات لم تصل إليها حضارة اليوم، بل إن في الحوزات والمعاهد العلمية السحيقة والدانية من عصرنا الشيء الكثير مما يحملك على الدهشة، مما لا مثال له في أدبنا ونحن دعاة الأدب، ولا في فلسفتنا ونحن المزهوون بها، ولا في أخلاقنا ونحن الغارقون في النرجسية!)
ليخلص من هذا الادعاء إلى ادعاء آخر يتمثل في (إن في سير أوحدي عصورهم وفرائد أزمنتهم من الأعلام هباتا روحية وأخلاقية وفكرية سبيل الوصول إليها هو الدراسة التبضيعية التشريحية، والتجريدية النقدية)[15].
وبالقراءة العابرة العامة لهذا الكلام بما فيه من ادعاءات كبيرة، قد نقف عند حدود (الدعوى) ونصفها بأنها مجرّد كلام إنشائي عام، يفتقر إلى المصداقية، وفيه الكثير من المبالغات والتضخيم لتلك المعاهد والحوزات وأعلامها...مع ملاحظة أننا أصدرنا هذه الأحكام على هذه الدعوى بعد قراءتنا لها مباشرة، وباندفاع كامل، دون أية محاولة منا في البحث عنها، والتأكد منها، بل ودون أي التفات منا إلى ما ختم به المؤلف دعواه!
ولكن في حال عدنا إلى القراءة بوعي وتأمل، ودون أحكام مسبقة أو مستعجلة، سننتبه حينها إلى ما لفت المؤلف انتباهنا إليه من أن سبيل اكتشاف حقيقة أولئك الأعلام وما قدموه إلينا من هبات هو الرجوع إليهم، والقيام بقراءتهم ودراستهم في كل جوانب حياتهم، أما إصدار الأحكام عليهم دون معرفة أي شيء عنهم، وفقط وفق تصوراتنا المسبقة عنهم، أو مواقفنا الشخصية منهم، فليس ذلك من الانصاف في شيء، بل هو الظلم والإجحاف بعينه.
وقطعا المؤلف لا يريد منا المبادرة إلى تصديقه في دعواه، لأن المبادرة إلى التصديق والحكم قبل التأكد من الدعوى حماقة وسفاهة، كون ذلك أيضا من الأحكام التي لم تعتمد على أسس سلمية، ولم تسند إلى موازين صحيحة، وإنما كل ما يريده هو أننا قبل أن نستعجل في أحاكمنا على أعلامنا -خصوصا بالأحكام المتطرفة- علينا -أولا- أن نعود إلى تاريخيهم، ونقف على حياتهم، ونطلع على سيرهم، وندرسهم في ذلك كله دراسة مستوعبة واعية منصفة، ثم نحكم بما توصلنا إليه تلك الدراسة، وما يمليه علينا الضمير والانصاف.
وكذلك الحال في تراثنا الديني، وفكرنا الإسلامي، لا يصح أن نستقيه ونحكم عليه استنادا إلى المصادر المضادة، أو الخطابات الجماهيرية العامة خصوصا إذا لم تكن من أهل الاختصاص، بل يجب أن نرجع إلى مصادرنا الدينية التي أنتجتها عقول كبار العلماء والمفكرين، ليكون حكمنا وتقييمنا أقرب إلى الصحة والانصاف.
vسمات الشيخ ابن قرين التي تناولها الكتاب:
سلّط المؤلف الفاضل الضوء في كتابه هذا على الكثير من السمات العقلية لآية الله الشيخ حبيب بن قرين رضوان الله عليه، ومن الصعوبة بمكان أن نقوم بعرضها، وبيان منهج وأسلوب المؤلف في تناولها، لكننا نذكرها ذكرا عابرا وعلى نحول الإجمال، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتاب.
Ø سمة العلم التي بلغ فيها أعلى المراتب وأسمى المقامات.
Ø سمة التواضع التي بلغ فيها إلى حد أن اندكت إنيّته في ذاته اندكاكا، وهو عند الله عظيم[16].
وحسب وجهة نظر المؤلف الكريم فإن هاتين السمتين العظيمتين (هما عنصرا العقلية الباطنية للفقيه المتألق روحيا، يحقق بهذه العقلية المكتملة مرضاة الله...)
Ø سمة الذكاء واللباقة في إحياء السنن وإماتة البدع.
Ø سمة المرونة الفقهية[17].
Ø سمة الترويج لحقيقة أهل البيت عليهم السلام.
وأثناء عرضه لهذه السمة، وتقديم بعض الشواهد عليها، تطرّق إلى كتاب الشيخ ابن قرين (مقدمة كتاب نعم الزاد ليوم المعاد) فقام -أولا- بمناقشة العنوان وهل هو فعلا متوافق مع مقصود المؤلف قدس الله نفسه؟ ليقوم بعد ذلك بسرد أهم النقاط المميّزة في الكتاب، والتي صنفها على النحو التالي:
ü العقيدة بين التقليد والتعليم.
ü الإيقاظ الوجداني.
ü العقيدة بإمامة أهل البيت.
ü التقييم النفسي والقرآني للإلحاد.
ü رأيه (الشيخ ابن قرين) في المعاد الجسماني.
وقد قام بعرض هذه النقاط، وتحدث عنها، واستشهد عليها بما يناسبها[18]، ليعود بعد ذلك إلى مواصلة عرضه لسمات الشيخ ابن قرين، والتي أجملها في:
Ø سمة المواجهة مع الضلال.
Ø سمة التصحيح والحوار.
Ø سمة الارتهان بالواجب
Ø سمة التمحور بالعلم.
وكان المؤلف يستخلص هذه السمات من تراث الشيخ المقدّس ومواقفه وأحداث عصره، ويقوم بعرضها وتحليلها وتقديم الشواهد عليها...وفق طبيعة كل سمة من هذه السمات الجليلة الكاشفة عن بعض جوانب العظمة في شخصية خاتمة المراجع الأحسائيين الكبير، آية الله الشيخ ابن قرين رحمه الله تعالى حسب رؤية المؤلف[19].
وما اكتفى باحثنا (البن سعد) بهذه السمات وعرضها، بل عاد تحت عنوان (مرآة ثانوية للعقليات القرينية)[20]، ليشير إلى بعض السمات العقلية للشيخ الحبيب، منها ما ذكره في هذا العرض لهذه السمات، ومنها ما لم يذكره، وإنما جاء متناثرا بين دفتي الكتاب، وقد أجملها في نقاط مختزلة، على النحو التالي:
Ø عقلية العلم والتواضع، بما لها من جاذبية.
Ø تعدد مشارق علومه إلى (شمسي) ويختص بعلم الإنذار، (ونجمي) ويختص بعلم الأفكار[21].
Ø تنوّع أغراضه العقلائية في كل كتاب يكتبه، أو حوار يدخل فيه، وهو ما اصطلح المؤلف على تسميته (السمات) وقد أنهاها إلى خمس.
Ø عقلية الإيقاظ الوجداني، بدلا عن البراهين المتعالية، وهذا في العقائد.
Ø تشخيص المسألة الحاسمة للخلاف الأخباري الأصولي وتزييفه، ليقضي على هذه التسمية نهائيا.
Ø اللطف في الحوار لجني الأغراض العقلائية.
Ø الاهتمام بنفسيات المكلفين حين مخاطبتهم في رسالته العملية.
Ø النظرة المتعقلة في طرح المسائل الخلافية من كتاب الأحكام.
Ø مرئياته العقلائية للتوسع في بحث الآداب.
Ø مسابقة الزمن بالخيال العلمي.
Ø ثمار العقل والتفكير في اللغة الإضافية للتشريع، وهي لغة الاحتياط.
Ø عقلية تحويل الرسالة العملية إلى شهادة علمية.
Ø المبدأ التربوي المتعقل، بمعنى التشويق ضمن عرض الأحكام.
Ø توحيد الدعوة إلى قراءة الرسالة بين الطلبة ونخب الثقافة الدينية عن طريق إلقاء بعض النكات الاستدلالية[22].
وختم هذه النقاط بقوله معلقا[23]: (وزيادة على هذه النقاط هناك الكثير من العبقريات والذهنيات الفقهية، لابد أنها استوقفت أو ستستوقف القارئ اللبيب بين ثنايا هذه السطور والعناوين من هذا الكتاب الشريف، لكنني أعرضت عنها صفحا عن ذكرها رغبة في الاختصار)
v رسالة نعم الزاد ليوم المعاد:
اعتمد الكاتب في كتابه هذا على ثلاثة وثلاثين مصدرا، من بينها خمسة مصادر للشيخ حبيب بن قرين، هي (مقدمة نعم الزاد ليوم المعاد، مناسك الحج، منار رفع الشبهات عن اختصاص التقليد بالأحياء دون الأموات، المسائل الكويتية، نعم الزاد ليوم المعاد)
ومع أن الكاتب سبر هذه المصادر بهمة وعزيمة الباحث الجاد، وغاص في أعماقها بعقلية المتأمل، وبصيرة المتفكر، بحثا وتنقيبا عن كل ما يخدم موضوعه، واستفاد منها استفادة حقيقية في بحثه، إلا أن (المقدمة والرسالة) هما المصدر الأساس الذي لجأ إليه، واتكأ عليه، واستقى منه، كونهما المعين العذب الذي لا ينضب، والكنز الثمين الذي لا يفني في تزويده بالمعلومات القيمة والمهمة فيما يتناسب مع موضوع بحثه ومادته.
فأما (المقدمة) فقد كانت من أهم مصادره في مواطن كثيرة من بحوث ومطالب كتابه، كما أنه قام بدراستها والتأمل فيها، وسجل أهم النقاط التي تميّزها حسب رؤيته ووجهة نظره، كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى.
وأما (الرسالة) فقد خصّها ببحث قيّم تحت عنوان (نعم الزاد ليوم الحساب وذكاء الخطاب) قدّم من خلاله دراسة موسعة وضافية كشفت عن مدى قيمة هذه الرسالة، وبيّنت ما تمتاز به من خصائص علمية وفنيّة حتى على الكثير من الرسائل المتأخرة فضلا عن تميّزها على ما سبقها أو عاصرها من رسائل.
ولا يمكننا عرض هذه الدراسة لطولها وعدم استيعاب هذه الوريقات لها، لذا سنكتفي ببعض الإلماعات ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الدراسة نفسها[24].
فقد استهل المؤلف الحديث عن هذه الرسالة بالإشادة الكبيرة بها، والثناء العاطر عليها، ليؤكد أنها -مقارنة بغيرها- تعتبر من غرر الرسائل في عصرها، وتحوي الكثير من خصائص واهتمامات الرسائل العملية التي ربما نفتقدها في غيرها، ويشير إلى أن القارئ قد لا يطيق صبرا على عرض كل ما استلهمه واستخلصه واستنتجه منها، مما جعله يكتفي بما يمكن أن يكون جوهريا، إضافة إلى تسجيل بعض النقاط الخاصة بقلم مدونها ومسطر حروفها وكلماتها وجملها الشيخ ابن قرين تغمده الله بواسع رحمته.
ومما سجله المؤلف في ذلك ونذكره اختصارا وبصياغتنا باستثناء العناوين:
§ العبارة السهلة الواضحة:
فهي سبكت بلغة سهلة واضحة، يفهما الخاصة والعامة، فلا تعقيد فيها ولا غموض، مع الحفاظ على جمالية السبك، وجودة التعبير، لتكون في متناول الجميع.
§ العرض البياني للمسائل:
بمعنى أن الشيخ ابن قرين لم يكتف بما هو سائد في الرسائل العملية من البيان النظري للفعل وأجزائه وشرائطه، بل تجاوز ذلك إلى التوسّع في بيان العمل العبادي وشرحه ليكون واضحا ومفهوما للمكلف.
وضرب المؤلف ثلاثة أمثلة على ذلك، ونقل فيها كلام الشيخ ابن قرين بنصه.
الأول: كلامه في تطهير الآنية.
الثاني: بيانه لكيفية غسل الميت.
الثالث: شرحه لعملية مسح الرجلين.
ليؤكد بعدها الباحث البن سعد على أن هذا الأسلوب البياني اعتمده الشيخ بن قرين في مواطن كثيرة من هذه الرسالة، كما اعتمده أيضا في مناسك الحج، ويرجّح المؤلف أن من أهداف وغايات مرجع الأحساء الكبير من اعتماده هذا الأسلوب:
§ رفع المعاناة والقلق من التكليف والمسائل الفقهية.
§ الحد من الاختلاف في الفهم بين المؤمنين، وما يمكن أن ينتج عنه من مشاكل معقدة.
§ الحرص على عدم نفورهم من تعلّم المسائل بسبب ما يرونه فيها من تعقيد.
§ تخليصهم من الوسواس الذي هو محل ابتلاء الكثيرين.
وعقّب المؤلف على ذلك بأن الهدف الرابع بالذات هو ما لا تحيد عنه الرسائل العملية عموما، بل ولها عدة طرق ومحاولات في طرده عن المؤمنين، واستخلص من رسالة (نعم الزاد) أربعة أمثلة توضيحيةـ وهي:
Ø مثال المفاهيم.
Ø مثال الناقضية.
Ø مثال الحيرة.
Ø مثال الموضوعات.
لينتقل منها إلى مبحث (حدود الفقه والتفقه) ويفتتح حديثه فيه بإثارة سؤال غاية في الأهمية عن حدود التفقه الشرعي، وهل هو محصور في الوجوب والحرمة والجواز وعدمه، أم يتعداه إلى مجالات أخرى؟
وتحت عنوان (ذكر بعض وجوه الخلاف والاختلاف) من هذا المبحث، أشار الباحث إلى أن من بين المراحل التي لا يطويها بسلام ويعبرها بأمان إلا من له من الفقاهة حظ ونصيب، ثلاث مراحل تتمثل في:
Ø مرحلة نظم المسائل وتفريعاتها في الرسالة.
Ø مرحلة التعامل مع الأدلة.
Ø مرحلة التعاطي مع الخلافات.
وأفاض الحديث والبيان في هذه المراحل الثلاث، إلى أن انتقل منها إلى موضوع (التكاليف الشرعية تهذيبية وتربوية) ويضّمن حديثه فيه مرئيات الشيخ ابن قرين ودوافع حرصه رضوان الله عليه على تضمين الكثير من المسائل ما يناسبها من آداب تربوية وأخلاقية أجملها المؤلف في سبع نقاط.
وتحت عنوان (بين حاجة العصر ورسائل الأمس) افتتح المؤلف حديثه بالإشارة إلى أن ما نعيشه في عصرنا الحاضر من تطوّر وتغيّر على مختلف الأصعدة، وفي جل إن لم يكن كل الحقول والميادين، لم يؤثر على الرسائل العملية من الناحية الفنية فحسب، بل وصل الأمر إلى حد عدم تضمينها بعض المسائل والفروع التي كانت تناسب الماضي، ولا تتوافق مع الحاضر وظروفه ومتغيراته ومقتضياته.
إلا أن مما يثير العجب والدهشة أن بعض الرسائل العملية القديمة تشتمل على بعض المسائل التي هجرها الجيل المعاصر باعتبار عدم مسايرتها للعصر الذي يعيشه، لكنه سرعان ما عاد إليها حين اكتشف خطأ تقديراته وتصوراته، واتضح له أنها من المسائل الحيّة التي يحتاجها الإنسان في كل زمان ومكان.
بل بعض ما ضمته الرسائل القديمة من مسائل ربما لم تكن محل ابتلاء وحاجة في ذلك العصر بقدر ما يحتاجها عصرنا الحاضر، وكأن فقهاء ذاك الزمن إنما أفتوا بها ليس لأبناء جيلهم وإنما لمن يأتي بعدهم!
وبتعبير الباحث الجليل الشيخ عبد الجليل[25]: (فذكرها في ذلك العصر كأنما بمهّد لهذا العصر العجائبي، وكأن فقيه ذلك الوقت يعيش معنا بالخيال!)
وفي رأي المؤلف ووجهة نظره أن رسالة (نعم الزاد) تضمنت عدة مسائل من هذا النوع، واستدل على ذلك بنقل مجموعة منها، وذلك قبل أن ينتقل إلى الحديث عن (الخطوط الفنية والعلمية للرسالة) ويؤكد على أنه (كانت عادة العلماء فيما سبق عصرنا قائمة على نسيج كتبهم بخيوط علمية وفنية غالية وثمينة)
وذكر أسباب ذلك، قبل أن يذكر قليلا من كثير مما ميّز رسالة (نعم الزاد) فتحدث عن خارطة هذه الرسالة، ووضع نموذجا لخطتها، وأشار لبعض المعلومات المشوقة التي تضمنتها، لينطلق إلى الحديث عن (النكات والوجوه الاستدلالية) فيها، قبل أن يختم بتسليط الضوء على (الآراء الاجتهادية المميزة للشيخ ابن قرين) ليكون ذلك بمثابة الوثيقة الموثقة التي لا يمكن نقضها، وشهادة الحق والصدق التي لا يمكن تكذيبها بأن آية الله الشيخ الحبيب من العلماء الأعلام، والفقهاء العظام، الذين جمعوا بين غزارة العلم، وسعة الأفق، ورجاحة العقل، ومتانة البحث، وعمق التحقيق، وقوة الاستدلال...
وبعد هذه الدراسة الموسعة والمهمة لهذه الرسالة القيمة، وصل المؤلف الفاضل إلى (آخر حبات المسك) وسبق أن أشرنا إلى بعض ما تضمنته واشتملت عليه هذه الحبات، فلا نعيد، ولا نزيد.
v الخاتمة:
من الطبيعي جدا أن يكون هذا الكتاب -كما غيره- بين اتفاق واختلاف مع الكاتب سواء في المادة أم المنهج أم الأسلوب أم النتائج، أو حتى في الأهمية والقيمة العلمية، إلا إن الإنصاف يدعونا إلى الاعتراف بأن هذا الكتاب قدّم لنا دراسة تأملية تحليلية جميلة ورائعة ومهمة عن شخصية علمية أحسائية كبيرة، هو الشيخ حبيب بن قرين رحمه الله، كشفت لنا النقاب عن سمو منزلته العلمية، وعظمة سماته العقلية الفقهية، مما يؤكد لنا أن الأحساء فعلا هي منجم ضخم للعلم والفكر، وأنتجت الكثيرين من كبار العلماء، وفطاحل الفقهاء، ممن لا يقلّون شأنا ولا منزلة عمّا أنتجته العواصم العلمية الأخرى، حتى قال الباحث الشيخ محمد بن علي الحرز عن مرجعية الشيخ بن قرين: (إن مرجعية الشيخ حبيب بن قرين كانت تنافس في المنطقة أكبر المرجعيات في النجف الأشرف وكربلاء...)[26].
بل قال في حقه السيد مهدي القزويني الكاظمي في حادثة ذكرها بتفاصيلها السيد هاشم بن السيد محمد الشخص[27]: (لو كان الأئمة المعصومون ثلاثة عشر، لقلت: الشيخ آل قرين هو الثالث عشر!)
وقد بذل المؤلف في تأليف كتابه هذا جهودا كبيرة يجب أن تذكر فتشكر، وتوسّع في موضوع بحثه هذا حتى يكاد أن يكون قد ألمّ بجميع أبعاده وأطرافه، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة ولا واردة مما له علاقة به إلا وأحصاها بين دفتي هذا الكتاب، كما أنه تعمّق في مادته عرضا وتحليلا واستشهادا واستدلالا واستنتاجا واستخلاصا بما أوفى وأغنى، ولذا فإن كل من سيرد هذا الكتاب -بعقلية تأملية واعية- لا يمكن أن يصدر عنه إلا بكم علمي كبير، وثراء معرفي غزير، وهذا مما يسجل للمؤلف بكل التقدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وزاد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[1]/ وقد شرّفني أخي العزيز الأستاذ السيد علي بن السيد عدنان الهاشم بزيارته الكريمة، وسلمني نسختي من الكتاب، وذلك مساء يوم الأثنين 20 شوال 1445هـ 29 أبريل 2024م.
[2]/ لقد تحدثنا عن معنى العنوان وأهميته ومهمته وأهم ما يجب أن يتصف به في ص267-268، من كتابنا (الشيخ باقر بو خمسين العالم الأديب المثقف)
[3]/ عقلية فقيه، ص8، المقدمة.
[4]/ وسائل الشيعة للحر العاملي، كتاب (القضاء) الباب (8) وجوب العمل بأحاديث النبي، ج27ص89.
[5]/ انظر ص9 من الكتاب.
[6]/ عقلية فقيه، ص9، المقدمة.
[7]/ ص15-16 من الكتاب، المقدمة.
[8]/ راجع نص كلامه بطوله في هذا المعنى في ص161-163 تحت عنوان (آخر حبات المسك)
[9]/ انظر تأكيده هذا في ص163 من الكتاب.
[10]/ راجع نص كلام المؤلف في هذا الشأن في ص10-16، من مقدمة الكتاب.
[11]/ انظر ص13-14 من الكتاب، المقدمة.
[12]/ عقلية فقيه، ص12، المقدمة.
[13]/ انظر ص164 من الكتاب.
[14]/ وقد تكلمت عن إهمال كتب السير والتراجم لأعلام الأحساء في بحثي (آية الله الشيخ محمد الهاجري في تراث الأستاذ سلمان الحجي) والذي كتبته ليكون تمهيدا لكتابه (آية الله الشيخ محمد بن سلمان الهاجري سيرة أخرى) وهو موجود في ج1ص25-72 من الكتاب.
[15]/ في ص8-9 من الكتاب.
[16]/ راجع تفاصيل الحديث عن هاتين الصفتين في ص19-24 من الكتاب.
[17]/ انظر ص27-32 من الكتاب، مع ملاحظة أن هذه الصفات الأربع (العلم، والتواضع، والذكاء في إحياء السنن وإماتة البدع، والمرونة الفقهية) لم يصنفها المؤلف ضمن سمات الشيخ ابن قرين التي خصص مبحث (فطنة العالم الفقيه) للحديث عنها، وابتدأ بذكر سمة الترويج لأهل البيت وما بعدها من سمات وفق التسلسل الذي ذكرناه في المتن، وإنما جاء ذكر تلك السمات الأربع في مبحث (منطق الأوصاف والشمائل) ونحن إنما اعتبرناها هنا من ضمن السمات، لأن السمات هي الشمائل حقيقة، ولأن المؤلف نفسه اعتبر العلم والتواضع من تلك السمات، وذك أثناء إجماله لسمات الشيخ العقلية تحت عنوان (مرآة ثانوية للعقليات القرينية) كما سيمّر علينا.
[18]/ للوقوف على مناقشة المؤلف للعنوان وما قاله في هذا السرد، راجع ص49-61 من الكتاب.
[19]/ راجع عن هذه السمات مبحث (فطنة العالم الفقيه) ص39-78 من الكتاب.
[20]/ راجعه في ص157-159 من الكتاب.
[21]/ شرح الشيخ البن سعد مصطلح مشارق العلم الشمسي والعلم النجمي في ص33-34 من الكتاب تحت عنوان (مشارق علومه النورانية) فراجع.
[22]/ نقلنا هذه النقاط ونحن بين التزام وعدم التزام بنص تعبير المؤلف.
[23]/ في ص159.
[24]/ فراجعها في ص91-156 من الكتاب.
[25]/ في ص119 من الكتاب.
[26]/ بحث (آخر المرجعيات المحلية في الأحساء العلامة الفقيه الشيخ حبيب بن قرين الأحسائي).
[27]/ فراجعها في ج1ص427-429 من أعلام هجر.
جديد الموقع
- 2024-07-07 ليس للمعرفة فقط نقرأ
- 2024-07-06 السياحة في الأحساء الأحساء موضع جذب للسياحة
- 2024-07-06 تريتر والأحمد ينثران الشعر في حضرة ابن المقرب
- 2024-07-06 الكتاب الخامس عشر لـ عدنان أحمد الحاجي مستجدات التوحد ج4
- 2024-07-06 تستخدم الفيلة أطراف خراطيمها للإمساك بالأشياء بدقة عالية، وهو ما يمكن أن يساعد في تصميم روبوتات بمقابض دقيقة للاستخدام في مجالات مختلفة
- 2024-07-06 كيف يؤثر الاجتفاف (فقد الماء) على وظيفة دماغ طفلك وحالته المزاجية
- 2024-07-06 الاصرار والأمل في شعر محمد عبدالله العلي
- 2024-07-05 قمة منظمة شنغهاي للتعاون في 2024 مواصلة التنمية السلمية والالتزام بحسن الجوار والصداقة وبناء نمط جديد من العلاقات الدولية
- 2024-07-05 شراكة مجتمعية تجمع بر الفيصلية بمؤسسة رضا الوقفية
- 2024-07-05 تكريم (٤٠)متفوقة من أبناء المستفيدين بمركز بر حي الملك فهد